عن صديقٍ قديم اجمل ما قرأت في حياتي

السبت، 29 يونيو 2013


عن صديقٍ قديم





كنّا أطفالاً، ربما في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي، في حصة الخط، حين طلبتْ (الأبلة رجاء) من الجميع أن يُخرجوا كراسات الخط من الحقائب، و توعّدتْ من أهمل إحضارها بالعقاب. كنتُ أنا و (عبد الرحمن) رفقاء نفس (التختة)، أصدقاء منذ الصف الأول الابتدائي، و زملاء دراسة حتى آخر سنوات المرحلة الإعدادية. في هذه الحصة كنتُ قد نسيتُ كراسة الخط على غير عادتي، و في هذا التوقيت الحرِج الذي يخشى كل طفل أن ينزل به العقاب من أستاذ معرفته بالتعليم تقتصر على الإرهاب و فرض السيطرة، في هذه اللحظة التي من الصعب أن تُمحى من الذاكرة حتى و إن كانت ذاكرة طفل سرعان ما ينتقل من فكرة إلى أخرى، استقبل عبد الرحمن العقاب بدلاً منّي بعد أن زعم أنه هو من نسي كراسته. بالنسبة لي - في هذا السن - كان هذا من أكثر المواقف بطوليةً، هو – بمقاييس عالم الكبار - بمثابة أن يقف شخص في مواجهة لص مسلّح ليوفر لكَ الحماية. أصبحتُ مديناً لعبد الرحمن منذ هذا اليوم بشئ ما لا أعرف له تعريفاً و لا وصفاً، لكن يبقى عبد الرحمن رغم تباعد المرات القليلة التي التقينا فيها بعد أن أصبحنا كباراً، يبقى من أقرب و أقدم الأصدقاء الذين حظيتُ بهم.


منذ عامين تقريباً، و دون أدنى توقُّع، و بعد فترة طويلة مرّتْ على آخر لقاء، وجدتُ عبد الرحمن يدقُّ باب بيتي ليدعوني لحفل زفافه، و هي لمحة عظيمة من شخص اعتدت منه أن يملك أطيب الخصال. حضرتُ حفل زفافه، و سعدتُ كثيراً برؤيته فرِحاً مسروراً.


منذ شهر تقريباً وقع حادث سير، أصيب على أثره عدة أشخاص، و تُوفّي آخرون. تمَّ نقل المصابين و المتوفين إلى نفس المستشفى التي أعمل بها، لكن في يوم إجازة لي، فلم أشهد وصول مصابي الحادث. عرفتُ بعد ذلك أن صديقي القديم قد يكون أحد المصابين، لكن لم أتيقّن من ذلك. حاولتُ الوصول إليه و الاستعلام من بعض الأصدقاء المشتركين، و وصلتْ الحقيقة المؤلمة أن عبد الرحمن كان قد تُوفّي في هذا الحادث.
ترك عبد الرحمن خلفه أمّاً يعلم الله بمَ تشعر، و ترك زوجة لم يمضِ على زواجه بها أكثر من عامين، و ترك طفلة ربما أكملتْ فقط عامها الأول.


لسنوات لم يكن يرهبني منظر الدم و لا الموتى، فحياتي بين المرضى و المصابين و الميتين، و الأطباء يتأقلمون مع مرور الوقت على العمل في هذا الجو الذي يعبق برائحة الدم و الموت. لكن بعد موت عبد الرحمن تغيرت الأمور، أصبح كل مصاب يذكرني بأن عبد الرحمن ربما كان مستلقٍ ها هنا في نفس السرير، ربما نزف في هذه البقعة، ربما كان جرحه مثل هذا الجرح، و ربما كان يتألم مثل هذا الألم.
هذه المسافة التي يكتسبها الطبيب لتفصله عن المريض، التي تحمي الطبيب من أن يتأثر جداً فيختل قراره العقلي و يسيطر عليه الشعور، هذه المسافة التي تمنع صور الجرحى و الميتين من أن تتسلل إلى الأحلام، هذه المسافة تقلّصتْ جداً بعد موت عبد الرحمن، و لا أدري كم يلزمني من الوقت لأستعيد تلك المسافة المناسبة.



صديقي القديم، لازلتُ أشعر أنني مدينٌ لكَ بشئٍ لستُ أعرف ما هو.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
الامل © 2012 | Designed by Bubble Shooter | تعريب وتطوير : قوالبنا للبلوجر